سورة النساء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ} فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله، وعلى من قبله أن يكفروا به، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يتضح معناها.
وقد تقدّم تفسير الطاغوت، والاختلاف في معناه. قوله: {وَيُرِيدُ الشيطان} معطوف على قوله: {يُرِيدُونَ} والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب، كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون كذا، ويريد الشيطان كذا. وقوله: {ضَلاَلاً} مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور، والتقدير: ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً. والصدود: اسم للمصدر، وهو الصدّ عند الخليل، وعند الكوفيين أنهما مصدران، أي: يعرضون عنك إعراضاً.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بيان لعاقبة أمرهم، وما صار إليهم حالهم، أي: كيف يكون حالهم {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} أي: وقت إصابتهم، فإنهم يعجزون عند ذلك، ولا يقدرون على الدفع. والمراد: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت {ثُمَّ جَاءوكَ} يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على {أصابتهم} وقوله: {يَحْلِفُونَ} حال، أي: جاءوك حال كونهم حالفين {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك.
وقال ابن كيسان: معناه: ما أردنا إلا عدلاً، وحقاً مثل قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] فكذبهم الله بقوله: {أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن عقابهم. وقيل عن قبول اعتذارهم: {وَعِظْهُمْ} أي: خوّفهم من النفاق {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ} أي: في حق أنفسهم. وقيل: معناه: قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم {قَوْلاً بَلِيغاً} أي: بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم، وسبي نسائهم، وسلب أموالهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} {من} زائدة للتوكيد {إلاَّ لِيُطَاعَ} فيما أمر به ونهى عنه {بِإِذُنِ الله} بعلمه. وقيل بتوفيقه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بترك طاعتك، والتحاكم إلى غيرك {جَاءوكَ} متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم، ومخالفتهم {فاستغفروا الله} لذنوبهم، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم، فاستغفرت لهم، وإنما قال: {واستغفر لَهُمُ الرسول} على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} أي: كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.
قوله: {فَلاَ وَرَبّكَ}. قال ابن جرير: قوله: {فَلا} ردّ على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله: {وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقيل: إنه قدّم {لا} على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون، كما في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] {حتى يُحَكّمُوكَ} أي: يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل: معناه: يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى *** وسعاة الناس في الأمر الشجر
أي: المختلف، ومنه: تشاجر الرماح، أي: اختلافها {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ} قيل: هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام، أي: فتقضي بينهم، ثم لا يجدوا. والحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتفّ: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقيل: الحرج: الإثم، أي: لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت {وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} أي: ينقادوا لأمرك، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج: {تَسْلِيماً} مصدر مؤكد، أي: ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً، ولا شبهة فيه. والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم، كما يؤيد ذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} فلا يختص بالمقصودين بقوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما. وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف، ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ} فضم إلى التحكيم أمراً آخر، وهو عدم وجود حرج، أي: حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله: {وَيُسَلّمُواْ} أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد، فقال: {تَسْلِيماً} فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه ردّ، ولا تشوبه مخالفة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال: كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ} الآية.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعقب بن قشير، ورافع بن زيد، كانوا يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمرّ، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك»، فغضب الأنصاري، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك»، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري.
استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق ابن لهيعة عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فقضى بينهما، فقال المقضيّ عليه: ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردّنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول، فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.


{لَوْ} حرف امتناع، و(أن) مصدرية، أو تفسيرية؛ لأن {كَتَبْنَا} في معنى أمرنا. والمعنى: أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في قوله: {فَعَلُوهُ} راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه. قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ} قرأه الجمهور بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن عامر، وعيسى بن عمر {إِلاَّ قَلِيلاً} بالنصب على الاستثناء، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والرفع أجود عند النحاة. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم {لَكَانَ} ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لأقدامهم على الحق، فلا يضطربون في أمر دينهم {وَإِذّن} أي: وقت فعلهم لما يوعظون به {لآتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً} لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق.
قوله: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والاشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى المطيعين، كما تفيده من {مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم. والصدّيق المبالغ في الصدق، كما تفيده الصيغة. وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة. والرفيق مأخوذ من الرفق، وهو: لين الجانب، والمراد به: المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وهو منتصب على التمييز، أو الحال، كما قال الأخفش.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} هم: يهود، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ نحوه.
وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا: لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير.
وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في صفة الجنة، وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي، وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} الآية.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.


قوله: {يا أيها الذين آمنوا} هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، والحذر، والحذر لغتان: كالمثل، والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضاً، يقال: خذ حذرك أي: احذر، وقيل: معنى الآية: الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً؛ لأن به الحذر. قوله: {فانفروا} نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً. والمعنى: انهضوا لقتال العدوّ. أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار، والنفور، وهو: الفزع، ومنه قوله تعالى: {وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً} [الإسراء: 46] أي: نافرين، قوله: {ثُبَاتٍ} جمع ثبة، أي: جماعة، والمعنى: انفروا جماعات متفرقات. قوله: {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي: مجتمعين جيشاً واحداً. ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء، إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41] وبقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} [التوبة: 39] والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان: إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض.
قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد: المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج، ويقعدون غيرهم. والمعنى: أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطيء المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله: {لِمَنْ} لام توكيد، وفي قوله: {لَّيُبَطّئَنَّ} لام جواب القسم، و{من} في موضع نصب، وصلتها الجملة. وقرأ مجاهد، والنخعي، والكلبي {لَّيُبَطّئَنَّ} بالتخفيف {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ} غنيمة أو فتح {لَّيَقُولَنَّ} هذا المنافق قول نادم حاسد {ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة بين الفعل الذي هو {ليقولن} وبين مفعوله، وهو: {يا لَيْتَنِى} وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً. وقيل: المعنى: ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن: {لَّيَقُولَنَّ} بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} بالتاء على الفظ المودّة. قوله: {فَأَفُوزَ} بالنصب على جواب التمني. وقرأ الحسن: {فَأَفُوزَ} بالرفع.
قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله} هذا أمر للمؤمنين، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به. و{الذين يَشْرُونَ} معناه: يبيعون، وهم المؤمنون، والفاء في قوله: {فَلْيُقَاتِلْ} جواب الشرط مقدّر، أي: لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب، وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً، أو انقلب غانماً، وربما يقال: إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه.
قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله} خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات. قوله: {المستضعفين} مجرور عطفاً على الاسم الشريف، أي: ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر، وتريحوهم مما هم فيه من الجهد. ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: وأخص المستضعفين، فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأوّل الزجاج، والأزهري.
وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى، وفي المستضعفين، فيكون عطفاً على السبيل، والمراد بالمستضعفين هنا: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم: الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» كما في الصحيح. ولا يبعد أن يقال: إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة؛ لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقوله: {مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيان للمستضعفين.
قوله: {الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} هذا ترغيب للمؤمنين، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره {والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت} أي: سبيل الشيطان، أو الكهان، أو الأصنام، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله: {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} أي: مكره، ومكر من اتبعه من الكفار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فانفروا ثُبَاتٍ} قال: عصباً، يعني سرايا متفرقين {أَوِ انفروا جَمِيعاً} يعني كلكم.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه قال في سورة النساء: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً} نسختها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122].
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {ثُبَاتٍ} أي: فرقاً قليلاً.
وأخرج عن قتادة في قوله: {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي: إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يتخلف عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ما بين ذلك في المنافقين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في الآية قال: هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير {فَلْيُقَاتِلْ} يعني: يقاتل المشركين {فِى سَبِيلِ الله} في طاعة الله {وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ} يعني: يقتله العدوّ {أَو يَغْلِبْ} يعني: يغلب العدوّ من المشركين {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني: جزاءً وافراً في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين} قال: وفي المستضعفين.
وأخرج ابن جرير، عن الزهري قال: وسبيل المستضعفين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي عن ابن عباس قال: المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها.
وأخرج البخاري، عنه قال: «أنا وأمي من المستضعفين».
وأخرج ابن جرير، عنه قال: القرية الظالم أهلها مكة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان، فلا تخافوه، واحملوا عليه {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً}. قال مجاهد: كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة، فكنت أذكر قول ابن عباس، فأحمل عليه، فيذهب عني.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10